226      1518
  • هل يمكن الجمع بين تخصصي الدراسي وبين التعمق في مجال شرعي فكري؟
  • إبراهيم السكران
    إبراهيم السكران
    باحث ومُفكِّر إسلامي، مهتمٌ بمنهج الفقه الإسلامي وبالمذاهب العقدية والفكرية.
  • شيخي الفاضل .. هل يمكن الجمع بين اهتمامي في تخصصي وهو الصيدلة وبين التعمق في مجال شرعي فكري كالسياسة الشرعية وعلم اﻷصول مثلا ؟!
    الحمد لله وبعد،،
     
    أول قضية على الإطلاق هي أن تحدد خيارك.. هذه الخطوة الأهم بلا منازع.
     
    هل خيارك "تخصص معين" في العلوم البحتة كالصيدلة والطب والهندسة ونحوها، وتميل له وتشغف به وترتاح للقراءة في بحوثه وجوانبه التجريبية أو الإكلينيكية أو الميدانية؟ أم هو مجرد نتيجة وجدت نفسك فيها نتيجة بريق مجتمعي بعد تخرجك من الثانوية بمعدل متميز ورأيت العيون تنتظر منك أن تخبرهم بقبولك في هكذا تخصص؟
     
    وهل لك ميل للعلم الشرعي وشغف به وتلذذ ببحثه؟ أم هو تساؤل لاحق تسرب لنفسك نتيجة اكتشاف جاه العلم الشرعي في الأوساط الدعوية والبيئات المجتمعية؟
     
    هذا سؤال لا يوجد أحد على سطح هذا الكوكب يستطيع الجواب عليه إلا أنت، أنت فقط.
    وبعده تبدأ كل القصة.
    فاجعل ميلك الحقيقي هو الذي له جوهر وقتك ونصيب الأسد من زمنك، وبقية المكونات الشرعية والثقافية والأدبية والميدانية: روافد تبعية وتكميلية.
     
    فإن كان خيارك الصيدلة أو الطب أو الهندسة فأول قضية في مثل هذه التخصصات العلمية ليس أن تستثمرها كـ"بطاقة هوية" للدعوة، لا، هذا شيء تبعي، مثل بعض من يدخل الطب ويكدح في دراسته ويكون غاية ما لديه أن يلبس زي الطبيب ويلقي بعض الكلمات التوعوية العامة، فهذا في الحقيقة له جهد مشكور لكن فيه خسارة كبيرة، فلا هو الذي أبدع في تخصصه الطبي، ولا هو الذي تفرغ لتمتين مؤهله العلمي والدعوي لتكون كلماته ودروسه علمية نافعة.
     
    الأهم في مثل هذه التخصصات أن تنفع المسلمين في تقدم العلوم التجريبية البحتة بالبحوث التي تنشر في الدوريات المعتمدة والتجارب والاكتشافات وتطوير أنماط التدريب فيها والقيم والأخلاقيات المهنية بالوصول لعالم في غاية ما يكون من التمكن الموافق للشريعة..
    هذا هو غاية الطبيب والصيدلي والمهندس المسلم حقاً، وأما المشاركات الدعوية والشرعية والثقافية والأدبية في الشأن العام فهي تبع لأصل وظيفته ورسالته.
     
    القضية الأساس بالنسبة للطبيب والصيدلي والمهندس والفيزيائي ونحوهم هي "تحصيل الإمكانيات" للمجتمع المسلم، وهذه من أعظم حاجات المسلمين التي كان ضعفها أحد عوامل هيمنة الأمم وتكالبها على المجتمع المسلم، وما لا يقوم أمر المسلمين إلا به منها فهو من فروض الكفايات، وفي الصحيحين (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة) فانظر عظمة القيام بحاجات المسلمين.
     
    وليست هذه الأهمية لمثل هذه العلوم الدنيوية لعظمة الدنيا في ذاتها، كما يطرح غلاة المدنية المادية، فالدنيا في كتاب الله مجرد "لعب ولهو وزينة" ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وإنما لأن هذه العلوم وسيلة لإظهار الهدى ودين الحق على الدين كله، ولذلك تعظم قيمتها بقدر ما نفعت هذه الغاية والغرض.
     
    وأما إن كان ميلك للعلم الشرعي ولك فيه نهمة فعلم الوحي أجل العلوم "في ذاتها" على الإطلاق، لأن شرف العلوم بشرف المعلوم، وعلوم الشريعة مدارها على العلم بكلام الله ورسوله ومعانيهما، وإن كان غيره قد يكون أفضل منه تفضيلاً إضافياً بحسب الأشخاص والأوقات لا بما في نفس الأمر، والمراد أنه إن كان ميلك للعلم الشرعي فادرسه منهجياً في كلية شرعية أو بطريقة منهجية جادة في برنامج جماعي مثلاً، وأقبل بوقتك كله عليه، ولا تتنفس نفساً واحداً خارجه، ولا تقع في تمزق اختصاصات واهتمامات.
     
    وأما ما يقع من كثير من الطلاب الذين يدرسون في كلية الطب أو الصيدلة أو الهندسة ونحوها ثم ينشغل بالإنتاج في العلوم الشرعية أو الثقافية أو الأدبية فهذا يعيش "تمزق اهتمامات" يغلب عليها أن تتسبب في جعله غير مبدع لا في العلم المدني الذي تخصص فيه، ولا في العلوم الشرعية أو الثقافية أو الأدبية التي يشتغل بها، لأنه لم ينكب على أحدها، والواجب عليه أن يعود للسؤال الأساس وهو "أن يحدد خياره وينكب عليه".
     
    ومثله من يدخل كلية الشريعة ثم ينصرف للقراءة في الفلسفة والفكر الغربي، فيغلب عليه أن لا يكون مبدعاً لا في علوم الشريعة ولا في الثقافة الغربية، لأن كليهما يحتاجان انكباباً خاصاً لإدراك تفاصيلها، فلا بد من تعيين أصل وتبع في التخصصات.
     
    والكلام هنا كله فيما يخص علوم الشريعة في القدر المستحب منها مثل تحقيق الأسانيد وفروع النحو ودقائق خلافات الفقهاء ونحوها، وليس في القدر المفروض عيناً على كل مسلم، وهو ما لا يقوم دين المرء إلا به، فهذا يجب على كل أحد مهما كان تخصصه.
     
    مع التنبيه أيضاً إلى أن الوقت يتسع لكثير جداً من الأمور الجادة، وإنما المشكلة ليست في المطالب الجادة، بل في سرقة التوافه للأوقات، وخصوصاً عبر شبكات التواصل ومجالس المسامرات الطويلة ونحوها.
     
    فكثير ممن يقول لا وقت لدي، لو حاققته ودققت معه لاكتشفت أن الوقت المخصص للأمور الجادة من يومه سويعات معدودة، والبقية تذهب سدى سبهللا.
     
    والله أعلم،،